فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} أي: تحيةً وتكريمًا: {فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} كما قال في الآية الأخرى: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76].
{قَالَ} أي: جراءةً على الرب وكفرًا به: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} أي: أخبرني عن هذا الذي كرمته عليَّ بأن أمرتني بالسجود له، لِمَ كرمته عليَّ؟. أو المعنى: أخبرني أهذا الذي كرمته عليَّ: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلًا} أي: لأعمنَّهم وأهلكنَّهم بالإغواء، إلا المخلصين.
{قَالَ اذْهَبْ} أي: امض لشأنك الذي اخترته: {فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَآءً مَّوْفُورًا} أي: جزاءً مكملًا.
{وَاسْتَفْزِزْ} أي: استخف وأزعج: {مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} أي: أن تستفزه فتخدعه: {بِصَوْتِكَ} أي: بدعائك إلى الفساد. وعبَّر عن الدعاء بالصوت تحقيرًا له حتى كأنه لا معنى له: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} أي: صح عليهم، من الجلبة بفتحات وهي الصياح. والخيل الخيالة، أي: ركبان الخيل مجازًا. وأصل معنى الخيل الأفراس. والرّجل اسم جمع للراجل وهو خلاف الفارس، والمراد الأعوان والأتباع مطلقًا.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله؟. قلت: هو كلام ورد مورد التمثيل، مثلت حاله في تسلطه على من يغويه، بمغوار- بكسر الميم، الكثير الغارة وهي الحرب والنهب- أوقع على قوم فصوت بهم صوتًا يستفزهم من أماكنهم، ويقلقهم عن مراكزهم. وأجلب عليهم بجنده من خيالة حتى استأصلهم- أي: فالكلام استعارة تمثيلية مركبة، استعير فيه المجموع والهيئة للمجموع والهيئة. ووجهه ما ذكره من استئصالهم وإهلاكهم، أو غلبته وتسخيره لهم. وجوَّز أن يكون التجوز في المفردات تجوزًا بصوته عن دعائه إلى الشر بالوسوسة، وبخيله ورجله عن كل راكب وماش من أهل العبث والفساد بإغوائه {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ} أي: بحمله إياهم على إنفاقها في المعاصي وجمعها من حرام والتصرف فيها تحريمًا وتحليلًا بما لا يرضى: {وَالأَوْلادِ} أي: بالتفاخر فيهم وتضليلهم بصبغهم غير صبغة الدين ووأدهم، ونحو ذلك مما يعصى الله بسببه: {وَعِدْهُمْ} أي: المواعيد الباطلة والأماني الكاذبة من سلامة العاقبة ودوام الغلبة: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا} وهو تزيين الباطل بزينة الحق.
{إِنَّ عِبَادِي} أي: المخلصين: {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أي: تسلط بالإغواء: {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} أي: كفيلًا لهم يتوكلون عليه ولا يلجؤون في أمورهم إلا إليه. وهو كافيهم.
وقد أشار القاشانِيِّ إلى أن الآية تشير إلى انقسام الناس مع الشيطان على أصناف. وعبارته: تمكن الشيطان من إغواء العباد على أقسام؛ لأن الاستعدادات متفاوتة. فمن كان ضعيف الاستعداد استفزه. أي: استخفه بصوته، يكفيه وسوسة وهمس بل هاجس ولمة. ومن كان قوي الاستعداد، فإن أخلص استعداده عن شوائب الصفات النفسانية، أو أخلصه الله تعالى عن شوائب الغيرية، فليس له إلى إغوائه سبيل، كما قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وإلا فإن كان منغمسًا في الشواغل الحسية، غارزًا رأسه في الأمور الدنيوية، شاركه في أمواله وأولاده، بأن يحرضه على إشراكهم بالله في المحبة، بحبهم كحب الله. ويسول له التمتع بهم، والتكاثر والتفاخر بوجودهم. ويمنيه الأماني الكاذبة ويزين عليه الآمال الفارغة. وإن لم ينغمس، فإن كان عالمًا بصيرًا بتسويلاته، أجلب عليه بخيله ورجله. أي: مكر به بأنواع الحيل. وكاده بصنوف الفتن. وأفتى له في تحصيل أنواع الحطام والملاذ بأنها من جملة مصالح المعاش. وغره بالعلم وحمله على الإعجاب، وأمثال ذلك حتى يصير ممن أضله الله على علم. وإن لم يكن عالمًا بل عابدًا متنسكًا، أغواه بالوعد والتمنية. وغرَّه بالطاعة والتزكية أيسر ما يكون. انتهى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)}.
عطف على جملة {وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس} [الإسراء: 60] أي واذكر إذ قلنا للملائكة.
والمقصود من هذا هو تذكير النبي بما لقي الأنبياء قبله من معاندة الأعداء والحسدة من عهد آدم حين حسده إبليس على فضله.
وأنهم لا يَعدمون مع ذلك معترفين بفضلهم وهم خيرة زمانهم كما كانت الملائكة نحو آدم عليه السلام، وأن كلا الفريقين في كل عصر يمُتّ إلى أحد الفريقين الذي في عهد آدم، فلفريق الملائكة المؤمنون ولفريق الشيطان الكافرون، كما أومَأ إليه قوله تعالى: {قال اذهب فمن تبعك منهم} [الإسراء: 63] الآية، ففي ذلك تسلية للنبيء عليه الصلاة والسلام.
فأمْرُ الله نبيئه بأن يذكر ذلك يتضمن تذكيره إياه به، وذكر النبي ذلك موعظةٌ للناس بحال الفريقين لينظر العاقل أين يضع نفسه.
وتفسير قصة آدم وبيان كلماتها مضى في سورة البقرة وما بعدها.
والاستفهام في {أأسجد} إنكار، أي لا يكون.
وجملة {قال أأسجد} مستأنفة استئنافًا بيانيًا، لأن استثناء إبليس من حكم السجود لم يفد أكثر من عدم السجود.
وهذا يثير في نفس السامع أن يسأل عن سبب التخلف عن هذا الحكم منه، فيجاب بما صدر منه حين الاتصاف بعدم السجود أنه عصيان لأمر الله ناشىء عن جهله وغروره.
وقوله: {طينًا} حال من اسم الموصول، أي الذي خلقته في حال كونه طينًا، فيفيد معنى أنك خلقته من الطين.
وإنما جعل جنس الطين حالًا منه للإشارة إلى غلبة العنصر الترابي عليه لأن ذلك أشد في تحقيره في نظر إبليس.
وجملة {قال أرأيتك} بدل اشتمال من جملة {أأسجد لمن خلقت طينًا} باعتبار ما تشتمل عليْه من احتقار آدم وتغليط الإرادة من تفضيله.
فقد أعيد إنكار التفضيل بقوله: {أرأيتك} المفيد الإنكار.
وعلل الإنكار بإضمار المكر لذريته، ولذلك فصلت جملة {قال أرأيتك} عن جملة {قال أأسجد} كما وقع في قوله تعالى: {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد} [طه: 120].
و{أرأيتك} تركيب يفتتح بها الكلام الذي يراد تحقيقه والاهتمام به.
ومعناه: أخبرني عما رأيت، وهو مركب من همزة استفهام، ورأى التي بمعنى علم وتاء المخاطب المفرد المرفوع، ثم يزاد على ضمير الخطاب كافُ خطاب تشبه ضمير الخطاب المنصوب بحسب المخاطب واحدًا أو متعددًا.
يقال: أرأيتك وأرأيتكم كما تقدم في قوله تعالى: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة} في سورة [الأنعام: 40].
وهذه الكاف عند البصريين تأكيد لمعنى الخطاب الذي تفيده تاء الخطاب التي في محل رفع، وهو يشبه التوكيد اللفظي.
وقال الفراء: الكاف ضمير نصب، والتركيب: أرأيتَ نفسك.
وهذا أقرب للاستعمال، ويسوغه أن أفعال الظن والعلم قد تنصب على المفعولية ما هو ضميرُ فاعلها نحو قول طرفة:
فما لي أراني وابنَ عمي مالكًا ** مَتى أدْنُ منه ينأ عني ويبَعَد

أي أرى نفسي.
واسم الإشارة مستعمل في التحقير، كقوله تعالى: {أهذا الذي يذكر آلهتكم} [الأنبياء: 36].
والمعنى أخبرني عن نيتك أهذا الذي كرمته عليّ بلا وجه.
وجملة {لئن أخرتن إلى يوم القيامة} إلخ مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا، وهي جملة قَسَمية، واللام موطئة للقسم المحذوف مع الشرط، والخبرُ مستعمل في الدعاء فهو في معنى قوله: {قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون} [ص: 79].
وهذا الكلام صدر من إبليس إعرابًا عما في ضميره وإنما شرط التأخير إلى يوم القيامة ليعم بإغوائه جميع أجيال ذرية آدم فلا يكون جيل آمنا من إغوائه.
وصدر ذلك من إبليس عن وجدان ألقي في نفسه صادف مراد الله منه فإن الله لما خلقه قدر له أن يكون عنصر إغواء إلى يوم القيامة وأنه يُغوي كثيرًا من البشر ويَسلَم منه قليل منهم.
وإنما اقتصر على إغواء ذرية آدم ولم يذكر إغواءَ آدم وهو أولى بالذكر إذ آدم هو أصل عداوة الشيطان الناشئة عن الحسد من تفضيله عليه إما لأن هذا الكلام قاله بعد أن أعوَى آدم وأخرج من الجنة فقد شفَى غليله منه وبقيت العداوة مسترسلة في ذرية آدم، قال تعالى: {إن الشيطان لكم عدو} [فاطر: 6].
والاحتناك: وضع الراكب اللجامَ في حَنَك الفرس ليركَبه ويَسيّره، فهو هنا تمثيل لجلب ذرية آدم إلى مراده من الإفساد والإغواء بتسيير الفَرس على حب ما يريد راكبه.
{قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)}.